كنيستا السيدة العذراء والأنبا بيشوي والسيدة العذراء والأنبا رويس

"مساكنك محبوبة يا رب إله القوات. تشتاق وتذوب نفسي للدخول إلى ديار الرب" (مز 83: 1)

تاريخ الكنيسة

الكنيسة القبطية كنيسة رسولية

تعبير “أقباط”

تعبير “أقباط” يعادل كلمة “مصريين”، وهو تعبير مشتق عن اليونانية “إيحيبتوس” Αίγυπτος، مأخوذ بدوره عن المصرية القديمة “هاك كابتاح” بيت روح بتاح، من أعظم الآلهة في الأساطير المصرية. منذ الفتح العربي وحتى يومنا هذا يستخدم هذا التعبير عن مسيحي مصر تمييزًا لهم عن المواطنين المسلمين.

أبناء الفراعنة

الأقباط هم خلف قدماء المصريين، لذلك يدعون أبناء الفراعنة المحدثين. لعب الأقباط دورًا رئيسيًا في العالم المسيحي، خاصة خلال الخمسة قرون الأولى، لأن خليفتهم قد ساعدتهم على قبول المسيحية بغيرة متقدة، متمتعين بأعماقها خلال حياتهم النسكية، حياة التأمل، ودراسة الكتاب المقدس.

وإنني أود في هذا المقال أن ألقى بالضوء على الثقافة المصرية القديمة، واستجابتها نحو الإيمان المسيحي الجديد.

1. خلفيتهم الدينية

يشتهر قدماء المصريين بالفكر الديني كأمر طبيعي نشأوا عليه منذ العصور الأولى (3). بقول المؤرخ هيرودت Herodotus: “المصريون متدينون بمبالغة، يسبقون كل جنس البشر”. حدث شبع لشغفهم الديني بقبولهم الإيمان المسيحي الذي لا يضع حدودا للنمو الروحي، بل يرفع المؤمنين نحو حضن الآب لينعموا بالتشبه بالله، وبالشركة العميقة معه، والتعرف على الأسرار الإلهية.

2. أساسهم العملي المرتفع

مع ما بلغه العلم الحديث من تقدم فائق خاصة في القرن الأخير لكن لا تزال أعمال قدماء المصريين العلمية منذ ألاف السنين قبل الميلاد تعتبر سرًا غامضًا. نذكر على سبيل المثال الأهرامات بقدراتها الفنية وأسرارها، والتحنيط، والنحت، والألوان الخ. هذه جميعها لا تزال تحت البحث، حتى ظنّ البعض أن قدماء المصريين يعملون تحت قيادة أناس خارقين (رجال فضاء) جاءوا من كواكب أخرى. ويرى البعض أنه لولا حرق مكتبة الإسكندرية واندثار أسرار علمية ذات شأن كبير لبلغ الإنسان إلى الفضاء منذ وقت مبكر جدًا.

على أي الأحوال تسخير قدماء المصريين لكل طاقاتهم العلمية لحساب الفكر الديني مثل إقامة الأهرامات والتحنيط كان له أثره على الأقباط، إذ رأوا العلم ليس عدو الدين ولا مناقضا له، إنما يرونه عاملا لحسابه، وقد جاءت مدرسة الإسكندرية المسيحية تفتح أبوابها أمام العلماء والفلاسفة، إذ تؤمن أن كل علم أو فلسفة يمكن أن يخدم الحياة الروحية الصادقة.

3. عقائدهم الدينية

أ] عرفت كل مدينة رئيسية في مصر نوعًا من الثالوث، لكنه كان ثالوثًا يختلف تمامًا عن “الثالوث القدوس” في الفكر المسيحي.

ب] اعتقد فلاسفتهم في كائن واحد أعظم، والمثل الأفضل في ذلك هو الملك اخناتون (1383-1365 ق.م.).

ج] بينما انغمست غالبية الحضارات القديمة في الحياة الأرضية، تطلب الملذات الزمنية، إذ بالفكر المصري يمتص بالعالم الآتي وبالقيامة. عندما قبلوا المسيحية انشغلوا بمجيء المسيح القائم من الأموات، بألحانهم الطويلة وأصوامهم الشديدة محتملين هذا بفرح هذا الاتجاه الأسخاتولوجى (الأخروي) له أثره على عبادتنا وليتورجياتنا بل وعلى حياتنا اليومية.

د] الصليب: اتجه المصريون إلى تعريف الصليب كعلامتهم الخاصة بالحياة الأبدية “علامة أونخ”، التي أمسك بها الخالدون آلهة وفراعنة. علامة “اونخ” تأخذ شكل صليب مع قمة دائرية، تبناها الأقباط واستخدموها منذ عصر مبكر جدًا.

 هـ] بجانب هذا عرف المصريون فكرة وحدة الله، أبديته، لا محدوديته، أيضا حنو محبته (4).

العائلة المقدسة في مصر

 مصر في الكتاب المقدس

 ركز الكتاب المقدس على أورشليم “أرض السلام” أو “رؤية السلام” بكونها مركزًا لأرض الموعد، فيها يعلن الله سكناه وسط الناس: يقبل أن يكون له في داخلها هيكل مقدس، فيه يمارس الشعب عبادته ويقدم الذبائح والتقدمات ويتهلل بالأعباء الكثيرة علامة الفرح السماوي. هذه هي أورشليم رمز السماء التي دعيت أورشليم العليا الحرة أمنا جميعًا (غل 4: 26)، يقابلها من الجانب الآخر بابل ومصر. بابل تمثل حالة عصيان الله مع العنف والعجرفة (برج بابل، تك 11) ومقاومة الله في أشخاص مؤمنين (السبي البابلي)، والزنا والرجاسات (رؤ 17: 5). أما مصر فإذ عُرِفَت بخيراتها الكثيرة والتجاء إسرائيل ويهوذا إلى فرعونها للاحتماء من بابل كانت تمثل محبة العالم والاتكال على الذراع البشرى (1مل 18:21).

كانت مصر ملجأ للكثيرين خاصة في فترات الجوع، فجاء إليها أبونا إبراهيم (تك 12:10). واستقبلت يوسف الذي صار الرجل الثاني بعد فرعون يقدم من مخازنها لكل البلاد المحيطة بها، واليها جاء أبونا يعقوب وبنوه حيث بدأت نواة شعب الله والأسباط الاثني عشر في داخلها، وظهر أول قائد لهم هو موسى العظيم في الأنبياء يسنده هارون أول رئيس كهنة في تحريرهما الشعب من عبودية فرعون. يقول اسطفانوس: “فتهذب موسى بكل حكمة المصريين، وكان مقتدرا في الأقوال والأعمال” (أع7:20).

من بين الأنبياء الذين جاءوا إلى مصر إرميا الذي حث الشعب ألا يهربوا إلى مصر، لكنه عبثًا حاول أن يثنيهم عن عزمهم، بل أرغموه على مرافقتهم في رحلتهم (إر 41:1: 43: 7). وقد نطق بنبواته الأخيرة في تحفنيس في مصر (إر43:8-44: 3).

هذا وقد صارت مصر تمثل جماعة الأمم الذين جاء إليهم السيد المسيح ليقيم كنيسته وشعبه الجديد منهم.

مبارك شعبي مصر

بروح النبوة نظر هوشع النبي ابن الله الحي منطلقًا من بيت لحم، حيث لم يكن له أين يسند رأسه في كل أورشليم، ليلتجئ إلى أرض مصر، ويجد له موضعا في قلوب الأمميين، فقال على لسان الآب: “من مصر دعوت ابني” (هو11:1).

وفي أكثر تفصيل يحدثنا إشعياء النبي عن هذه الرحلة المقدسة، فيقول: “يدخل الرب أرض مصر محمولا على سحابة خفيفة فتتزلزل أوثانها. ويقام للرب مذبح في أرض مصر” (إش 19: 1). ويفسر القديس كيرلس الكبير هذه النبوة بقوله: “السحابة المتألقة التي حملت الرب يسوع إلى مصر هي أمه العذراء مريم التي فاقت السحاب نقاء وطهرا. أما المذبح الذي أقيم للرب في وسط أرض مصر فهي الكنيسة المسيحية التي قامت على أنقاض الهياكل الوثنية على أثر تزلزل أوثانها وانهيار برابيها أمام وجه الرب يسوع”.

لهذا تسبح الكنيسة في عيد دخول السيد المسيح مصر، قائلة “افرحي وتهللي يا مصر مع بنيها وكل تخومها، لأنه قد أتى إليك محب البشر، الكائن قبل كل الدهور”.

يمكننا أن نقول أن مجيء المسيح السماوي إلى أرضنا صبغ كنيستنا بروح البركة الربانية، فجاءت عبادتها وطقوسها وألحانها تحمل نغم الحياة السماوية.

المسيرة المقدسة لمصر

لعل أهم المحطات التي توقفت فيها العائلة المقدسة هي:

1. تل بسطة:

انطلقت العائلة المقدسة من بيت لحم إلى مصر عن طريق صحراء سيناء، تسير في طريق القافلة الجنوبي بمحاذاة ساحل البحر الأبيض المتوسط من غزة إلى رفح، ثم اجتازت إلى رينوكوالور (2) حاليا العريش ومنها إلى أو ستراكينى التي صارت فيما بعد كرسي الأسقف إبراهيم الذي اشترك في مجمع أفسس عام 431م (3). آخر محطة في صحراء سيناء هي مدينة البلسمو حاليا الفرما (4)، الواقعة ما بين العريش وبورسعيد، وهى مفتاح الدخول إلى أرض مصر من الجانب الشرقي.

عبرت العائلة بعد ذلك إلى مدينة بسطة أوتل بسطة بجوار مدينة الزقازيق حاليا، حيث استراحت تحت شجرة قيل أنها بقيت على قيد الحياة حتى سنة 1850 م.

وفى تل بسطة تفجرت عين ماء استقى منها السيد المسيح وكان ماؤها مصدر بركة في الإبراء من الأمراض.

دخلت العائلة المدينة فسقطت الأصنام معا أثار الكهنة ضدها، واضطرت إلى النزوح خارج المدينة في موضع يدعى الآن “مسطرد”.

2. المطرية:

انتقلت العائلة المقدسة إلى بلبيس، ومن هناك اتجهت إلى “منية جناح” التي تدعى حاليًا “منية سمنود”، ثم عبرت النهر إلى سمنود، ومنها إلى البرلس. عبرت فرع النيل إلى الجهة الغربية حيث سخا، ثم سارت غربا بمحازاة وادي النطرون جنوب برية شهيت التي صارت فيما بعد فردوسا للرهبان، الملائكة الأرضيين.

اتجهت العائلة المقدسة إلى عين شمس في المكان المعروف حاليا بالمطرية حيث استراحت تحت ظلال شجرة تعرف الآن باسم “شجرة العذراء”، تعتز بها الكنيسة. تفجرت على مقربة منها عين ماء، ونبتت على جوانبها زهور البلسم أو البلسان التي تضاف إلى الأطياب التي يصنع منها الميرون المقدس.

وتعتبر المطرية مع شجرة العذراء من أهم المناطق التي جاء إليها رحالة العصور الوسطى ولا يزال يزورها السواح إلى يومنا هذا.

3. مصر القديمة:

كنيسة السيدة العذراء ودير الراهبات بحارة زويلة يحتضنان المركز الثالث الذي يقدسه الأقباط كموضع باركته العائلة المقدسة: أما الموضع الذي جذب الأنظار فهو المغارة التي شيدت عليها كنيسة القديس سرجيوس” أبى سرجة” في القرن الرابع بمنطقة بابيلون بمصر القديمة، وقد احتفظت بمقصورة خاصة تحت الأرض بها مذبح وشرقية نيش () يحتمل أن يكون الطفل يسوع قد اضطجع فيها.

لم يمضى أسبوع حتى تحطمت الأوثان فثار الكهنة، وخرجوا وراء العائلة الغريبة التي اضطرت أن تسير إلى منف ثم المعادى في الموضع الذي شيدت عليه كنيسة السيدة العذراء، وربما كان معبدًا يهوديا قبل بناء الكنيسة، والتي بقبابها الحالية تشير أنها من صنع القرن الثالث عشر (5).

4. في صعيد مصر:

عبرت العائلة المقدسة النيل واجتازت إلى صعيد مصر، إلى مير والقوصية بمحافظة أسيوط. وفى جبل قسقام اختفت حوالي سنة شهور، في الموضع الذي أقيم عليه الآن دير العذراء الشهير بالمحرق. من هناك أعلن للقديس يوسف أن يرجعوا حيث سلكوا طريقا آخر انحرف بهم إلى الجنوب قليلا حتى جبل أسيوط، وهناك بقوا قليلا في مغارة بجبل أسيوط المشهورة بدير العذراء بجبل درنكة بأسيوط.

كنيسة العذراء بالزيتون:

يحتمل أن تكون العائلة المقدسة فد مرت في ذات الطريق وقد ظهرت القديسة مريم في يوم 4 أبريل عام 1968، وبقى الظهور يتكرر شهورا كثيرة لمدة ساعات طويلة علنًا أمام الجماهير. وقد انشغل العالم الكنسي كله بهذا الظهور الفريد الذي ردّ كثيرين إلى الإيمان عمليًا.

مقصورة العذراء “العزباوية”

توجد قصة طريفة بخصوص هذه التسمية، فقد أنشئت على عزبة كان يزرع فيها فلاح بطيخًا حيث مرت به العائلة المقدسة. طلب القديس يوسف من المُزارع أنه إن سأله احد الجند عنهم أن يخبره بأنهم عبروا به حين كان يُزْرَع البطيخ. وفعلًا بعد يومين مرّ به الجنود القادمون من أورشليم فسألوه إن كانت قد عبرت به عائلة غريبة، فأجاب بما قال له القديس يوسف. وإذ كان النبات قد ظهر وأثمر بطيخًا خلال اليومين بطريقة معجزية ظن الجنود أن العائلة قد مرت من الطريق من شهور فأبطأوا في اقتفاء أثرها؛ وقد صارت هذه المقصورة بركة لكثيرين.

جبل الكف

قيل أن العائلة المقدسة، عند عبورها في النيل عند جبل الطير بالقرب من سمالوط، أن صخرة عظيمة كادت تسقط من جبل هناك على السفينة فخافت القديسة مريم، أما الطفل يسوع الذي له السلطان على الطبيعة فمد يده وللحال توقفت الصخرة، وانطبع كف يده عليها. دعي الجبل إلى يومنا هذا “جبل الكف”. وقد أمرت الملكة هيلانة ببناء كنيسة في نفس الموضع.

كرسي القديس مرقس

تدعى الكنيسة القبطية أو كنيسة الإسكندرية “كرسي مار مرقس”، أحد الكراسي الأربعة الأولى: أورشليم، أنطاكية،الإسكندرية وروما.

كيف دخلت المسيحية مصر؟

يعتبر القديس مرقس هو مؤسس الكنيسة القبطية. على أي الأحوال، تشير الشواهد إلى المسيحية قد دخلت إلى مصر حتى قبل القديس مرقس، وإن كان بلا شك على نطاق ضيق للغاية. فيما يلي بعض النقاط التي لها اعتبارها في هذا الشأن:

    يشير سفر أعمال الرسل إلى اليهود الذين من مصر، وقد حضروا يوم العنصرة (أع 2: 10) هؤلاء بالتأكيد عند عودتهم إلى بلدهم نقلوا إلى أقاربهم ما رأوه وما سمعوه عن السيد المسيح.

     أشار ذات السفر إلى رجل يهودي أسكندري يدعى أبولس، وصل إلى أفسس. وقد نعت أنه “فصيح مقتدر في الكتب”، بشر بغيرة روحية، كان قادرا أن يوضح من الكتب المقدسةأن يسوع هو المسيح المنتظر (أع 18: 4 و28).

    يحتمل أن يكون أبولس هذا هو أحد جماعة صغيرة مسيحية من أصل يهودي عاشت في الإسكندرية.

     وجه القديس لوقا إنجيله إلى “العزيز ثاوفيلس”، مؤمن مسيحي من الإسكندرية (لو 1: 3).

     جاء في السنكسار القبطي (14 بشنس) cuna[arionعن كرازة سمعان الغيور في منطقتي جنوب مصر والنوبة (2).

القديس مرقس مؤسس الكنيسة المصرية القبطية

يعتز الأقباط برسولية كنيستهم، هذه الكنيسة التي أسسها القديس مرقس أحد السبعين رسولًا (مر10:10) وأحد الإنجيليين الأربعة. يتطلع إليه الأقباط باعتباره أول حلقة في سلسلة البطاركة الـ117 دون انقطاع، ولكونه على رأس فيض الشهداء (3).

هذه الرسولية لا تقوم فقط على تأسيس الكنيسة وإنما أيضا على مثابرة كنيستنا في الحفاظ على ذات الإيمان الذي سلمه الرسل وخلفاؤهم الآباء القديسون.

حياة القديس مرقس

مواطن أفريقي من والدين يهوديين ينتميان لسبط لاوي (4). عاشت أسرته في قيروان حتى هجم عليهما البربر وفقدا ممتلكاتهما، فانتقلوا إلى أورشليم ومعهما طفلهما يوحنا مرقس (أى 12: 13 و25؛ و15:37). واضح أنه تلقى قسطا كبيرا من التعليم، فصار يجيد التحدث باليونانية واللاتينية إلى جانب العبرانية.

 

كانت أسرته متدينة للغاية، ملتصقة جدا بيسوع المسيح. من أقاربه القديس برنابا ابن عمه، والقديس بطرس. لعبت والدته مريوم دورًا هامًا في الأيام الأولى في كنيسة أورشليم(5). كونها هي أول كنيسة مسيحية في العالم، فيها أسس السيد المسيح الافخارستيا المقدسة (مر 14:12-26)، وفيها ظهر الرب للتلاميذ بعد قيامته، وأرسل روحه القدوس عليهم.

 

التصق الشاب مرقس بالرب، الذي اختاره أحد السبعين رسولا (6). أشير إليه في الكتاب المقدس في بعض الأحداث الخاصة بالرب؛ فقد كان حاضرا في عرس قانا الجليل، وهو الرجل الذي كان حاملًا الجرة حينما ذهب تلميذان ليعدا الموضع للفصح (مر 14: 13 و14 لو 22: 11) وهو ذات الإنسان الذي هرب عريانًا عند الصليب (مر14: 51) (7) لهذا تصر الكنيسة على دعوته: ثيؤريموس أي ناظر الإله، لمنع مغالطات بعض المؤرخين.

القديس مرقس والأسد

يرمز الأسد للقديس مرقس، لسببين:

        بدأ إنجيله بوصف يوحنا المعمدان كأسد يزأر في البرية (مر 1: 3).

         قصته الشهيرة التي وصفها القديس سويرس بن المقفع: حدث أن أسدا ولبؤة ظهرا ليوحنا مرقس ووالده ارساليس وهما في الطريق إلى الأردن. ارتعب الأب، وطلب من ابنه أن يهرب ويبقى هو يلاقى مصيره؛ لكن يوحنا مرقس أكد لوالده أن يسوع المسيح ينقذهما، ثم بدأ يصلي، فسقط الوحشان ميتين وآمن الأب بالسيد المسيح، وبعد زمن قليل رقد.

كرازته مع الرسل

في البداية رافق القديس بطرس في رحلاته التبشيرية داخل أورشليم واليهودية. وبعد ذلك رافق القديسين بولس وبرنابا في أول رحلتيهما التبشيرية إلى أنطاكيا وقبرص وأسيا الصغرى. لسبب أو آخر تركهما راجعا إلى بلده (أع 13: 13) في الرحلة الثانية رفض القديس بولس أن يأخذه معه لأنه سبق فقطع الرحلة الأولى ورجع، بسبب هذا انفصل القديس برنابا عن القديس بولس، وذهب الأول إلى قبرص مع ابن عمه مرقس (أع 15: 36-41). هناك رقد في الرب وقام القديس مرقس بدفنه.

بعد ذلك احتاج القديس بولس إلى القديس مرقس وقاما بالكرازة معا في كولوسي (4: 11) وروما (فى 24؛ 2تي 4:11) وربما في فينسيا.

في أفريقيا

عمل القديس مرقس الحقيقي هو في أفريقيا، فقد ترك روما إلى بنتابوليس (8)، موطن ميلاده. إذ ألقى بذار الإيمان وصنع معجزات كثيرة. سافر إلى مصر عبر الواحات بصحراء ليبيا فصعيد مصر، ثم إلى الإسكندرية، حيث دخلها من الباب الشرقي عام 61م.

عند وصوله تهرأ حذاؤه، فذهب إلى إسكافي يدعى انيانوس. وإذ استخدم الإسكافي مخرازا ثقب يده، فصرخ “يا الله الواحد”. تهلل القديس مرقس بهذا، وبعد شفائه لجرحه بطريقة معجزية، تشجع وبدأ يكرز لأول من قبل الإيمان (9). التهبت الشعلة، وأخذ انيانوس الرسول إلى بيته حيث اعتمد هو وأهل بيته وكثيرون تبعوه.

لوحظ نشر المسيحية بهدوء إذ ثار الوثنيون وكانوا يطلبون القديس مرقس في كل موضع. وإذ أحدق به الخطر سام أسقفا (أنيانوس)، وثلاثة كهنة، وسبعة شمامسة لخدمة الجماعة. إن حل به خطر، ترك الإسكندرية إلى برقة، ومنها إلى روما حيث التقى بالقديس بطرس وبولس، وبقى هناك حتى استشهادهما عام 64م.

إذ عاد إلى الإسكندرية (عام 65م)، وجد القديس مرقس أن المسيحيين قد ازداد عددهم جدا. وصاروا قادرين على بناء كنيسة لها اعتبارها فىبوكاليا.

استشهاده

في عام 68م، جاء عيد القيامة في ذات يوم عيد سيرابيس، فاجتمع عامة الوثنيين الثائرين في هيكل سيرابيس الإسكندرية، وهجموا على المسيحيين ببوكليا، ألقوا القبض على القديس مرقس وحيث ربطوه وصاروا يسحبونه في شوارع المدينة الرئيسية. فكانت الجماهير تصرخ: “ليؤتي بالثور إلى بوكاليا”، حيث كان الموضع صخريا، هناك كانت الثيران تعلف لذبحها للأوثان.

ألقى القديس في السجن عند المساء، حيث تمتع برؤية ملاك يشجعه، قائلا: “لقد جاءت ساعتك يا مرقس، الخادم الصالح، لكى تنال مكافأتك. تشجع، فقد كتب اسمك في سفر الحياة.”. وإذ اختفى الملاك شكر القديس مرقس الله الذي أرسل له ملاكه. فجأة ظهر له المخلص نفسه، وقال له” السلام لك يا مرقس تلميذي وإنجيلي”. صرخ القديس: “يا ربى يسوع المسيح”، لكن الرؤية اختفت.

فى الصباح، سحب مرة أخرى في المدينة، ربما أثناء موكب الغلبة ليرابيس، حتى تنيح. مزق جسده الملطخ بالدماء، وقد أرادوا حرقه لكن ريحا هبت وأمطارا سقطت بغزارة فتفرقت الجماهير. سرق المسيحيون جسده، ودفنوه سرا في مقبرة نحتت في صخرة تحت مذبح الكنيسة.

وفاته

أثناء الانشقاق الذي حدث بين الأقباط والملكيين (10)، احتفظ الأقباط بالرأس والآخرون بالجسد. وفى عام 644م. تسلل جندي إلى الكنيسة حيث كان الرأس مدفونا، فأخذها إلى سفينة حاسبا إياها كنزا. وإذ أمر عمرو بن العاص (قائد الفرق العربية) أن تترك السفن الإسكندرية بقيت هذه السفينة على الشاطئ لا تتحرك، عندئذ اعترف الجندي بما فعل، فرد عمرو الرأس إلى البابا بنيامين (11).

لم يبق جسد القديس في مصر، إذ سرق ونقل إلى فينيسيا بواسطة تجار إيطاليين. لقد بنوا كاتدرائية عظيمة باسمه هناك، معتبرين أن القديس شفيعهم. وفى عام 1968 قدم البابا بولس السادس جزءا من رفات القديس إلى البابا المصري كيرلس السادس، بقي محفوظا في الكاتدرائية الجديدة بالقاهرة.

أعماله الرسولية

كان القديس مرقس رسولا ذا فكر متسع، فكانت خدمته مثمرة، غطت ميادين كثيرة، ضمت:

   +  الكرازة في مصر، بنتابوليس، اليهودية، آسيا الصغرى، ايطاليا، خلالها سام أساقفة وكهنة وشمامسة.

   + أقام مدرسة الإسكندرية، التي دافعت عن المسيحية ضد مدرسة إسكندرية الفلسفية، وقدمت لنا عددا كبيرا من الآباء العظام.

   + كتب ليتورجية الافخارستيا، التي عدلها القديس كيرلس، حاليا تعرف بليتورجيا القديس كيرلس.

   + كتب الإنجيل بحسب مارمرقس.

الكنيسة القبطية والفكر الرسولي

الكنيسة القبطية الأرثوذكسية كنيسة رسولية، ليس فقط لأن مؤسسها هو القديس مرقس الرسول الذي خدم فيها وأقام أسقفا وكهنة وشمامسة لمعاونته في خدمتها واستشهد في الإسكندرية، ولا فقط لأن بطريركها هو خليفة مارمرقس خلال سلسلة من الباباوات منذ العصر الرسولي دون انقطاع، وإنما أيضا لبقائها تحفظ في حياتها وروحانياتها وليتورجياتها وعقائدها الفكر الرسولي؛ فهي امتداد حتى للكنيسة في عيد الرسل دون انحراف.

قد تتهم كنيستنا أحيانا بالجمود ورفضها للتنازلات، لكنها بالحقيقة ليست هي كنيسة جامدة بل أمينة ومحافظة للحياة الرسولية، تود تقديم وديعة الإيمان بكل صورة في أمانة عبر الأجيال.

أذكر على سبيل المثال في عام 1971 كنت أعمد طفلا في مدينة دالاس بالولايات المتحدة الأمريكية، وإذ كان حاضرا أحد رعاة الكنائس الأمريكية العماد، جلست مع الراعي على انفراد، فقال لي: “هذا الطفل محظوظ ولما سألته عن سبب هذا التعليق أجاب: “خلال هذا الطقس الطويل للعماد أحسست كأني في جو العصر الرسولي”.

يقول الآب جنجمان في كتابه: “الليتورجيا الأولى (1)” في التكوين العام للقداس احتفظت الطقوس الشرقية بكثير من الملامح الأولى التي اختفت في الطقس الروماني فبينما يتغير قداسنا من يوم إلى آخر، إذ بالشرق يكرر ذات الطقس بلا تغيير.”

إذ لم يحدث تغيير يذكر في عبادتها بليتورجياتها وطقوسها وألحانها، كما بقت محافظة على العقيدة بكثير من الحزم. يتجلى السيد المسيح فيها ليجتذب الكثيرين إليه خلالها، عاملا في أعضائها بقوة الروح.

أذكر على سبيل المثال، حوالي عام 1979، حضر إنسان أمريكي إلى كنيستنا بالإسكندرية مارجرجس باسبورتيح وكان مرتبطا بموعد هام. جاء لمجرد حضور نصف ساعة في الكنيسة كنوع من السياحة؛ حاول المرافق له أن يذكره بالميعاد ليخرج فرفض التجاوب معه حتى نهاية القداس الإلهي. وعندما خرج قال له أنه كان يشعر بجاذبية للقداس الإلهي بالرغم من عدم معرفته لكلماته، إذ لم يكن يعرف العربية، أحس أنه كمن في السماء.

قد تكرر هذا الأمر كثيرا في بلاد المهجر.

وإنني أتركك تتلمس هذا الفكر الرسولي عند حديثنا عن الكنيسة في حياتها التعبدية وفى نظرتها للعقائد والتقليد الكنسي وحياتها السلوكية الخ